حدائق الحيوانات البشرية
بشر في حديقة الحيونات؟ لكن هذه المرة ليس زوارا بل معروضات
فمتى و أين حدث ذلك ؟
و كيف انتهى المطاف بالبشر أن يصبحو في أقفاص ؟
هذا ما سنتعرف عليه في هذا الموضوع
منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الثانية، تم عرض 35 ألف شخص في حدائق الحيوانات البشرية في الدول الاستعمارية، وفقاً لفيلم جرائم الحقبة الاستعمارية- حدائق الحيوانات البشرية، من إنتاج قناة “دويتشه فيله” الألمانية، الذي يستعرض قصة أربعة أشخاص من السكان الأصليين من أماكن مختلفة كانوا ضحية تلك الحدائق.
قبل أن تصبح حدائق الحيوانات البشرية، ترفيهاً جماهيرياً، كانت حكراً على النخبة. في وقتٍ مبكر من القرن الـ16 استورد الأوروربيون ما وصفوهم بـ”الغرباء الوحشيين من الأراضي النائية”؛ لتسلية الأغنياء في البلاط الملكي، وبحلول القرن الـ19 انتشرت الموضة إلى المعارض والحانات والمسارح، فوصلت إلى جمهورٍ أكبر.
كانت تلك المعارض ناجحة لسببٍ بسيط؛ حيث جاء الزوار لرؤية “متوحشين من أراضٍ بعيدة”، إلا أن سبباً آخر كان وراء إقامة تلك المعارض، ألا وهو دعم التسلسل الهرمي للأجناس وتبرير الاستعمار، وبفضل الحدائق البشرية، أصبح التمييز العنصري مقبولاً.
في الولايات المتحدة كان ملك المعارض البشرية “فينياس تايلور بارنوم”، الذي اجتذبت عروضه الشهيرة “عروض غرباء المظهر” حشوداً من الناس، وأكسبته ثروة كبيرة منذ عام 1840. كتب بارنوم لأكثر من مئة وكالة تجارية وقنصلية أمريكية، يطلب منها إرسال متوحشين جامحين حقيقيين لضمهم إلى فرقته. تمكن الأيرلندي روبرت كينغهام من تلبية طلبه؛ حيث جلب من كينزلاند، شمال أستراليا، مجموعة من السكان الأصليين هناك؛ وهم الأبورجيون، وعلى رأسهم شاب يدعى تامبو..
تعرَّض الأبورجيون إلى القمع على يد المستوطنين البريطانيين الذين استولوا على أراضيهم منذ القرن الثامن عشر؛ فقد حُرموا من حقوقهم الأساسية، وتعرَّضوا إلى العنف والفصل العنصري، وكانوا من اختصاص دوائر أبحاث الحيونات والنباتات، بينما صنَّفتهم الأيديولوجيا العلمية الزائفة بأنهم في الترتيب الأدنى من التسلسل الهرمي للأجناس البشرية؛ ما جعلهم مرغوبين في العروض البشرية، وغير مناسبين للحياة العصرية ومحكوماً عليهم بالانقراض.
دون دراية بما يُعد لهم، وصل الأبورجيون إلى نيويورك، لينضموا إلى فرقة بارنوم، ويقدموا عروضاً في أكثر من 130 مدينة أمريكية وكندية على اعتبار أنهم متوحشون، وبعد فترة مرض تامبو وتوفي خلال إحدى الجولات. بعد عام قام كانغهام بتحنيط الجثة وبيعها لمعرض في كليفلاند، وتَلَت ذلك عدة وفيات؛ ولكن العروض استمرت في أوروبا.
في الفترة ما بين 1890- 1917، وجدت القوى الاستعمارية الحدائق البشرية فرصة جاهزة لتبرير سياساتها الإمبريالية، هذا ما يفسر تحول دور الحدائق البشرية بما يتماشى مع الأهداف المنظمة والمحددة للقوى الاستعمارية في أوروبا وأمريكا واليابان، التي بدأت تتصارع لتقاسم المناطق؛ خصوصاً إفريقيا.. تم الاستيلاء على العالم تدريجياً من قِبل أولئك الذين وجدوا أنفسهم “متحضرين” ونشروا الحدائق البشرية لتبرير الاستعمار.
إحدى الناجيات من الحدائق البشرية كانت سيدة تُدعى موليكو، من سكان غويانا الفرنسية، شمال أمريكا الجنوبية، غادرت مع مجموعة من رفاقها طوعاً إلى باريس، عام 1882، بعد أن أقنعهم موفد وزارة المستعمرات الفرنسية بذلك، عبر تقديم المال والمشاهد الجميلة لباريس، مؤكداً المعاملة الحسنة.
يقول كبار السن إن حفلاً كبيراً أُقيم لوداعهم، وصعد المغادرون إلى السفينة وبدأت تختفي تدريجياً، ثم لا يعرف أحد ما الذي حدث.
“التطهير العرقي” و”الإبادة الجماعية”؟
حسب الاتفاق، كان من المفترض أن تعمل موليكو ورفاقها بصناعة الفخار وبناء السفن؛ إلا أنهم سجنوا في أقفاص وأجبروا على التصرف كمتوحشين أمام الجمهور، وتعرضوا إلى الإذلال المضاعف، كما خضعوا لتجارب علمية عنصرية. حقق معرض “حديقة التأقلم في باريس” نجاحاً كبيراً، واستمر العرض رغم وفاة بعضهم إثر الشتاء والمرض والإرهاق، فعادوا 10 فقط من أصل 32 .
لأغراضٍ دعائية للدولة المستعمرة، سيطرت وزارة المستعمرات الفرنسية على المعارض البشرية، وأصبحت العروض تُقام بإذنها.
- موَّل قسم الأنثروبولوجيا في جامعة سانت لويس رحلة استكشافية لإفريقيا بقيادة صاموئيل بيرنر، كان الاعتقاد السائد أن السكان في الكونغو هم الأقل تحضراً على الكوكب، وكان الهدف رسم خريطة للتطور البشري من الأدنى إلى الأعلى.
ومن الكونغو أحضر بيرنر معه 6 أفارقة أقزام إلى الولايات المتحدة، كان قصر قامتهم دليلاً لتكيُّفهم على العيش في الغابات المطيرة. أما الغربيون فاعتبروه رمزاً للدونية، ورأوا فيهم تأكيداً لنسب الإنسان إلى القردة، وأنهم الحلقة المفقودة بين الإنسان والحيوان.
أحد الأقزام الستة يدعى أوتا بينغا، بلغ طوله 141 سم، وأصبح الأكثر شعبية بينهم، وتسببت أسنانه المدببة في خوضه تجربة مروعة وعومل باحتقار، اعتقاداً من الناس أنها دليل وحشية، والحقيقة أن كسر الأسنان كان تقليداً شائعاً بالكونغو.
في عام 1906 لم يعد بيرنر قادراً على إطعام (قزمهِ!) أوتا بينغا، فأعاره إلى حديقة حيوانات، وهناك وضع في قفص مع القرود، وطلب منه أن يلعب دور المتوحش. في غضون بضع سنوات حضر أكثر من ألف شخص لرؤيته، بجوار الشمبانزي، لولا أن الصحافة اعترضت، وتم الاتفاق على نقله إلى دار أيتام.
صار أوتا بينغا حراً وبرعاية مؤسسة دينية، في عام 1910 منح تعليماً دينياً مسيحياً، وذهب إلى مدرسة ابتدائية وتعلم الإنجليزية، حاول أن يعيش حياة طبيعية ويعمل؛ لكن كونه قزماً من الكونغو لم يستطع التكيف في بلد الـ Klux Klan”، التي تؤمن بتفوق العرق الأبيض. Ku Klux Klan
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تبين لأوتا بينغا أنه من الصعب أن يعود إلى الكونغو، فأقدم على الانتحار بإطلاق النار على قلبه
.
1918- 1939.. نقطة تحول
شكَّلت الحرب العالمية الأولى نقطة تحول في علاقة المستعمرين بالمستعمرات؛ عام 1914 قررت القوتان الاستعماريتان (بريطانيا وفرنسا)، تجنيد الرجال من المستعمرات، الذين أصبحوا عند الحاجة إليهم مفيدين وشجعاناً!
بعد 1918 أصبحت المعارض البشرية مختلفة، لم يعد السكان الأصليون متوحشين؛ لكنهم طبعاً ليسوا أنداداً للمستعمرين، إنما على طريق الحضارة! آخر تلك العروض قدمتها مجموعة من شعب الكاناك، في “حديقة التأقلم” بباريس، وأرسل بعضهم في جولة إلى ألمانيا، كجزء من مباهاة فرنسا بقوتها الاستعمارية.
الرقص التاهيتي.. كيف يؤثر الاستعمار على ثقافة المكان؟
بدأت الأصوات تندد بتلك العروض، واتفق شيوعيون وحقوقيون واستعماريون قدماء على أنها غير مقبولة، بالتزامن مع تمرد الكاناك الموجودين في ألمانيا؛ ما اضطر وزير المستعمرات إلى إغلاق المعرض، وإعادة الفرقة إلى موطنها في جنوب غرب المحيط الهادئ.
كان آخر الاستعراضات في العقد السابق للحرب العالمية الثانية، ومع أن بعض المتعصبين تمسكوا بها، إلا أنها توقفت تدريجياً، وكانت نهايتها بداية ثورات التحرر من الاستعمار.
0 التعليقات:
إرسال تعليق